قصصٌ تبدأ، وتتطوّر، وتتعقّد، وتنقطع قبل أن تُستأنف من جديد، بطلاتها: سيرانه، سلتي، سلمى، خنسي، عَيشانه، نساءٌ تقاطعت سبلهنّ ومصائرهنّ في تلك المنطقة الساحرة من شمال شرق سوريا، التي عبثت "سكّة قطار برلين بغداد" بها وبمصائر سكّانها.
من سهول ماردين، ومدينتي: عامودا، ورأس العين، وقرى: شورِك، وكوندِك، وتل حلف، تهمس هؤلاء النساء بالأسرار بأصواتهنّ الخفيضة المتقطّعة الممهورة بالخوف والمرض. لكنّ حكاياتهنّ وأغنياتهنّ تتجاوز صراع أجسادهنّ مع مرض السلّ، وصولاً إلى تخليد صراعات الإيزيديّين، والسريان، والأرمن، مع القهر، والمذابح، والاغتراب الأزلي.
في نساء السلّ، يوغل ريبر يوسف بلغته الشعريّة، وحساسيّته الخاصّة في استكشاف المنطقة الشماليّة الشرقيّة من سوريا، بما فيها من تنوّعٍ: إثنيٍّ، ودينيٍّ، وعرقيٍّ، مُتّكئاً على بحثٍ تاريخيٍّ، وجغرافيٍّ، وأنثروبولوجيٍّ معمّقٍ لما يعيشه الناس في تلك البقعة من الأرض، لكنّه عبر عمله هذا يخلق فضولاً للتنقيب في التاريخ مرّةً أُخرى، بعد أن بات لشمال شرق البلاد وجه امرأة.
ما الحرب من دون صيحات المتظاهرين، وهدير الطائرات الحربيّة، وصراخ المعتقلين في غرف التعذيب؟ وكيف تتبدّى الموجودات والأفعال من دون أصواتها؟ وما الحاجة إلى جرس الباب؟ وما صوت الطعام المطهوّ في قِدْرٍ؟ وكيف يستطيع الطفل-الشابّ الأصمُّ هضْم عالمٍ صامتٍ، مكتوم الصوت كهذا؟
تلك بعض الأسئلة التي يطرحها كتاب "المريد الأصمّ"، الذي يصف صورة العالم بعد حذف ملفّه الصوتيّ، ويحكي يوميّات أبٍ قام بتنشئة ابنه الأصمّ وحيداً.
متّكئاً على أساليبَ سرديّةٍ متنوّعةٍ، يُضيء ريبر يوسف على الجوانب المُعقّدة في ثنائيّة الأبوّة- البنوّة بما فيها من مشاعرَ مُركّبةٍ، مثل: الحُبّ، والكُره، والخوف، والرغبة في التحرُّر من عِبْء هذا الرابط بين الاثنين، أو الدفاع عنه وتعزيزه. هو كتابٌ عن الأب الذي يتخلّى طوعاً عن أصوات العالم إن كانت لا تطرق أذنَيّ ابنه، وعن ابنٍ يُعيد اكتشاف نفسه ليدفن صممه وخوفه إلى الأبد.