على سطحٍ صغيرٍ في أحد أحياء حمصَ يعيش الحميماتي نبيه وردان مع طيوره حياةً موازيةً لما يحصل حوله في المدينة، حياةً خاصّةً غرائبيّةً، ودافئةً، ونقيّةً، تختلف عن قسوة ما تعيشه حمصُ من فوضى، ودمارٍ، وأحداث تهجيرٍ إبان آذار 2011. وفي الوقت الذي يفرض فيه حظر التجوّل على المدينة بأكملها، تبقى الطيور، إلى حين، تتمتّع بحريّة الطيران في سماءٍ رحبةٍ لا تعرف قيوداً، لكنْ حتّى هذا الأمر على وشك التغيير بمجرّد أن تمتدّ يدُ "المتّشحين بالكاكي" إلى السماء كما إلى الأرض، مغلقين بذلك معبر نبيه نحو حياةٍ أُخرى.
في رواية "الممر اللامألوف" يستكشف فراس المعصراني -بأسلوبٍ بسيطٍ ومباشرٍ- عالم الحميماتيّة السحريّ، بما فيه من طقوسٍ وغوايةٍ ترتبط بكلّ ما يتعلّق بالطيور وتربيتها، لكنّه يذهب أبعد من ذلك ليسترق نظرةً إلى مدينة حمص ككلّ، وروتين حياتها اليوميّ قبل أن تبتلعها لحظة التحوّل.
لا أسماء للنساء في هذا الكتاب، بل هنّ محض أجساد، فمن خلال الجسد يتعرّف المجتمع عليهنّ، ومن خلاله أيضاً يعرّفن هنّ بأنفسهن. هذا الجسد المستلب في كثيرٍ من الأحيان، هو نفسه الذي يستحقّ الاحتفاء والاحتفال.
عبر الدمج على نحوٍ متقن، وبتقنيات مبتكرة للكتابة، بين ما هو حقيقيّ وما هو متخيّل، وهدم الحدود بلا مبالاة بين الواقعية النفسية والخيال العلمي والكوميديا والرعب والفانتازيا والواقعية السحرية، تسكب "كارمن ماريا ماتشادو" في "جسدها وحفلات أخرى" رؤيتها لعالم النساء الحقيقيّ المتناقض: الجميل، والمضحك، والغريب، والمظلم، والمرعب، على حدٍّ سواء. فهذا التناقض ينحفر في تجاربهن وحيواتهنّ اليومية، ما بين شدٍّ وجذبٍ، واستقلالية وعجز، ليكشف في النهاية عن المعنى السريالي لكون المرء "امرأة".
إدواردو غاليانو كاتبٌ عبقريٌّ، ولاعبُ كرة قدمٍ رديءٌ، لكنّ افتقاده لمهارة لعب كرة القدم لم يفقده شغفه بهذه الرياضة التي سخّر من أجلها مقدراته كقاصٍّ، ومؤرّخٍ، ومشجّعٍ مخلص. كتاب "كرة القدم بين الشمس والظلّ" محاولةٌ "للتكفير عن الذنب"، وفيه يقدّم غاليانو سرداً موجزاً لتاريخ كرة القدم، والتغيّرات التي لحقت باللّعبة على مرّ الزمن، خاصّةً في ظلّ الأهميّة الجوهريّة التي اكتسبتها اللّعبة في دول أمريكا اللاتينيّة، كما يستذكر أيضاً مفاصل مضيئةً، ولحظاتٍ لا تُنسى في الملاعب، ولاعبين استثنائيّين مسّهم إغواء الجري وراء الكرة.
لكنّ غاليانو في مؤلّفه هذا لا يتوقّف عند لحظات الإثارة، والمجد، والشهرة، داخل حدود الملعب فقط، بل يذهب منقّباً في الظلّ؛ ليكشف الخرافات التي آمن بها عشّاق هذه الرياضة ولاعبوها، والعنصريّة التي لاحقتهم، وليفضح أيضاً كمّ الاستغلال والفساد الذي حوّل هذه الرياضة إلى تجارةٍ، ولاعبيها إلى سلعٍ، قاتلاً بذلك متعتها.
لم تحمِ الرقّة، الشابّةَ العشرينية النبيلة إيڤيلين من خيبات الحب، فتهجر بودابست ذاهبةً إلى منزل أجدادها في قريةٍ على ضفاف نهر تيسا، علّها تحظى هناك بالسكينة وتنعم بالهدوء. لكن شعورها بالطمأنينة يهتزّ مع تصاعد شكوكها بوجود شخصٍ يطوف حول منزلها. أتراه حبيبها كالمان؟ لا تعرف ما إن كانت تأمل ذلك أم تخشاه!
تغرق إيڤيلين في عالم غرائبي يختلط فيه الأموات بالأحياء، والواقع بالأسطورة، فيبدو كل ما هو مستغرب شديد الاعتيادية؛ فتاة تعشق شجرة، رجلٌ يتمدّد في تابوته ويقرأ كتاب الصلوات، وأشباحُ عشاقٍ خائبين يطاردون عشيقاتهم...
في "عبّاد الشمس" يعتمد الكاتب الهنغاري "جولا كرودي" اللغة الوصفية والتداعي الحرّ الذي يختلط فيه الحلم بالحقيقة، ليُدخل القارئ في أعماق شخصياته ويجعله يرى الطبيعة بعيونهم، راسماً صورة الريف المجريّ الذي يمضي فيه الناس حياتهم باحثين عن الحب، كما تتحرّك زهرة عبّاد الشمس بحثاً عن الضوء.
ما هي القيمة الحقيقية لقدم جنديٍّ أنقذت حياة ضبّاطٍ أعلى منه رتبة؟ كيف يضحك في الحقيقة شخصٌ اتّخذ الضحك مهنة له؟ كيف تختصر إجابات مقتضبة بنعم أو لا سعادةَ رجل؟ وما الذكريات التي ستثيرها بضع لوحاتٍ معلّقة في مدرسةٍ تحوّلت لمستشفى عسكريّ، لدى تلميذٍ مصابٍ عائد من الحرب؟ أيكون من الجيّد أن نعيش لنعمل، أم أن نعمل لنعيش؟
هذه الأسئلة وغيرها، سيحرّكها الكاتب الألماني "هاينريش بُل" في هذا الكتاب. عاكساً بأسلوبه الطريف حيناً، الغاضب حيناً آخر، والحسّاس في كلّ حين، سخريّته من الظروف التي تلت الحرب، وأجبرت الناس على معاودة حياتهم كأنّ شيئاً لم يكن، واستهزاءه بالنزعة الرأسمالية التي تطالب الجميع بالعمل بأقصى طاقتهم من أجل "المستقبل"... مثمّناً التأمل والبطء، يكتب "هاينرش بُل" في هذه القصص ردّه على عالمٍ عجول، ممسوس بالجنون، وفاقد لإنسانيّته.
يضطرّ "قاسم" الشابّ التائه، لتحمّل هويّات لم يخترها، ويدفع دوماً ثمن أخطاء لم يرتكبها. لكنّه يجد مهرباً من حياته وظروفه حين يقترح عليه الطبيب "رمزي النووي" السفر معه إلى بلد الزعيم "بيغ بوس" لإجراء عملية تحنيط لابنة الزعيم الشابّة التي توفّيت في ظروف غامضة.
يترافق وصولهما مع وباء غامض ينتشر في البلاد ولا يهاجم إلا الفتيات، فيجد "رمزي" فرصته في اقتراح مشروع "تزيين" المتوفّيات، وسرعان ما تواجهه التقوّلات والاتهامات. غير أن "قاسم" المنساق وراء الطبيب كالمسحور، والواقع تحت إيهامه، لا يستطيع التأكّد من صحّة ما يقال، ولا نفيه. فهل فعلاً للطبيب علاقة بالوباء؟
مقتحمةً هذه المرة غمار عالم جديد، تقودنا "ماريز كونديه" من لغزٍ إلى آخر، في حبكةٍ لاهثة، تدمج على نحو عجيب مسائل الهوية والعِرق والدين، لتحكي لنا عن "أزهار الظلمات"، اللواتي يرى "رمزي" أنهنّ وحدهن جديرات بالاشتهاء.
يُتمّ صحفيٌّ مقيمٌ في بوينوس آيريس الأربعين من عمره، ويقرّر أن يكتب كتابه الأول، لكن عن ماذا سيكتب حقاً؟ عن الشعراء الحزانى؟ العشيقات السابقات؟ القوارب؟ يجاهد الرجل في إيجاد نقطة الانطلاق. يخطّ إشارات حول أحداثٍ حصلت، يتنقّل بين ذكريات وأحلام وحوارات، لكنه يشعر أن الحياة التي عاشها أغنى وأكثف من كل الذي كتبه، فهل كانت أغنى حقاً؟
في رواية "البئر" يكتب "خوان كارلوس أونِتّي"، عبر نصٍ متدفّق يحطّم الحواجز بين الأزمنة والأمكنة، والشعور واللاشعور، عن بطلٍ ذي طبع غريب، مهمّش، غاضب من دون سبب واضح، وواقع دوماً في نوعٍ من سوء الفهم الذي يجعله عاجزاً عن التواصل مع الآخرين.
في نهاية الرواية، يتركنا "أونِتّي" مع إحساس صادم، ونحن نتساءل عن طبيعة العمل الذي قرأناه: أكان رواية أم حلماً أم تراه مجرّد هذيان؟
يصل رجلٌ أربعينيّ غامض وعليل إلى بلدة نائية، لكنّه يرفض الإقامة في المصحّ لتلقّي العلاج، ويختار بدلاً من ذلك البقاء في فندق واستئجار بيت مهجورٍ في البلدة يصعد إليه بين حين وآخر. تكاد حياة الرجل تخلو من أحداث عدا تلقّيه رسائل منتظمة من "امرأتين" مختلفتين، تزورانه في ما بعد، وتحرّكان فضول أبناء البلدة لإطلاق الأحكام ورسم حبكات مختلفة للعلاقة التي قد تجمع الرجل بهما.
على غرار كتب "خوان كارلوس أونِتّي" الأخرى، تفاجئ هذه الرواية القارئ بأنّ كلّ جملة مصوغة بطريقة متفرّدة وتنتهي بصورة غير متوقّعة، كما لو أنها منسوجة بتأنٍّ لتدهشه وتستفزّه ليتأمل كيف اعتصر مؤلّفها طاقة كل كلمة لإيصال أكبر قدرٍ من المشاعر.
وحيدةً في جزيرة "بارأوي"، تعيش إنغريد بعد أن رحل الجميع، تجوب الخرائب وتُصلح ما يمكن إصلاحه وتصيد السمك والأجساد التي تجرفها الأمواج إلى شواطئ الجزيرة. تجاهد الشابّة لإخفاء سرٍّ كبير قد يعرّضها للخطر، بينما تشهد البلاد الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
في هذه الرواية يكمل "روي ياكوبسن" حكاية جزيرة "بارأوي" التي بدأت مع "اللامرئيون"، بسرده الرهيف، وصوره الطبيعية، وجمله المقتضبة التي تخفي وراءها أصدق المشاعر وأكثرها حرارة.
"بحر أبيض" روايةٌ عن البدايات الجديدة التي تشقّ طريقها من رماد حربٍ مدمِّرة، عن الصداقات والحب، ووجوه العابرين والموتى، وعن الأناس الذين يبقون مكانهم في مواجهة الحرب، يودّعون الراحلين ويستقبلون العائدين، ويرصدون مرور الأيام وتعاقب الفصول.
لا أرى الكون مجموعةً من الأجسام، والنظريّات، والظواهر، بل أراه خشبة مسرحٍ واسعةً يتحرّك عليها الممثّلون مدفوعين بتعقيدات القصّة وحَبكَتِها؛ لذا عند الكتابة عن الكون، من الطبيعيّ أن تُحضِر القرَّاء إلى المسرح، وما وراء الكواليس، ليرَوا عن كَثَبٍ بأنفسهم كيف تُحضّر المشاهد، وكيف تُكتَب السطور، وإلى أين ستجري الأحداث لاحقاً. يتمثّل هدفي دائماً وأبداً في إيصال نظرةٍ ثاقبةٍ لكيفيّة عمل الكون، وهو أمرٌ أصعب من مجرّد نقلٍ بسيطٍ للحقائق. ستصادفنا أوقات طوال الطريق -كما في أفضل العروض المسرحيّة- نبتسم فيها، وأُخرى نعبس عندما يدعونا الكون إلى ذلك، وفي أوقاتٍ أُخرى سنرتَعِدُ خوفاً أمامه أيضاً؛ لذلك أرى كتاب "الموت في ثقبٍ أسْود" بوابةً للقارئ إلى ما يثير حماستنا كلّه، وينوِّرنا، ويرعبنا في هذا الكون.
نيل ديغراس تايسون
كيف يمكن أن تجد لديها الجرأة، والتوقّد، والتجرّد، والعظمة؟ لا تظهر هذه الخصال إلّا عندما ترمي حريّةٌ ما نفسها عبر مستقبلٍ مفتوحٍ، منبثقٍ إلى ما وراء كلّ معطىً. نحبس المرأة في مطبخٍ، أو مخدعٍ، ونستغرب أن يكون أفقها محدوداً؛ نقصّ أجنحتها، ونأسف لأنّها لا تعرف الطيران. فلنفتح لها المستقبل، ولن تعود مضطرّةً للمكوث في الحاضر.
ونبدي التناقض نفسه عندما نسجنها في حدود أناها، أو منزلها، ونلومها على نرجسيّتها، وأنانيّتها، وما يصحبهما: كالغرور، والنزق، والشرّ... إلخ؛ نجرّدها من كلّ إمكانيّة التواصل المحسوس مع الغير، فلا تشعر ضمن تجربتها بنداء التضامن، ولا بفوائده، بما أنّها مكرّسةٌ بكلّيّتها لأسرتها، ومنفصلةٌ؛ بذلك لا يمكن أن نتوقّع منها أن تتجاوز نفسها نحو الصالح العام. تقبع بإصرارٍ في المجال الوحيد الذي ألِفَته؛ حيث تستطيع ممارسة تأثيرٍ على الأشياء، وتجد ضمنه سيادةً زائلة.