مأوى الغياب مكانٌ مشيّدٌ من الكلمات. كل من فيه ينتمي إلى عالم خيالاته، ويعيش في حالة من الهواجس والشكوك. عالم مستسلم للغموض والطلاسم وعاشق لزئبقية اللاثبات واللايقين. في هذا المأوى لا نعرف إن كان ما نقرؤه تهيؤات لربة الطلاسم أم أنها هي نفسها تهيؤات آخرين. لا نعرف إن كان يجب أن نصدقها أم نؤمن بالكُتّاب المتألمين الذين يخلقون أنفسهم بقوة اللغة ويخترعون العوالم والذوات بالكلمات.
في "مأوى الغياب" نقرأ عن حطام الأحداث والبشر، وعن اختمار هلع المدن الهالكة، في قصصٍ تنتمي إلى الخيال والغرائبية، بقدر ما تستمد مما يحدث في الواقع من خراب مادةً للكتابة.
ويرى الناقد الدكتور محمد الشحات أن سردية "مأوى الغياب" تنهض "على تشييد رحلة متخيّلة، متتالية الحلقات، تُسائل مفاهيم المكان والزمان والوجود البشري. وهي إذ تفعل ذلك، تبحث عن جوهر التواصل الإنساني فيما وراء "اللغة" بمعناها المتداول"
اذا يكتب الشباب اليوم؟ ما هي المواضيع التي يتطرقون إليها؟ قد يقدم هذا الكتاب نموذجاً لما يفكر فيه الشباب ولرؤيتهم للعالم. وبهذه المناسبة نعود ونؤكد على ما قيل سابقاً في مناسبات أخرى؛ إنهم يكتبون أنفسهم، وحيواتهم الضائعة في عوالم معقدة مبهمة لدرجة استحالة كتابتها. في هذه النصوص الثلاثة، الأنا حاضرة، لكنها تتحول شيئاً فشيئاً إلى "أنا" جامعة تعبر عن جيل بأكمله. كل منهم يكتب حاضره المعاش، لكن هذا الحاضر متسارع الإيقاع لدرجة يصعب فيها التقاطه والتعبير عنه بشكل يثبته في صورة محددة. السؤال الذي ينتج عن هذه الملاحظة: هل يمكن لهؤلاء الشباب أن يعيشوا حاضرهم فعلاً؟ النصوص التي يحتويها الكتاب هي جزء من نتاج ورشة كتابة مسرحية، أطلقنا عليها تسمية "الكتابة للخشبة"، والتسمية ليست اعتباطية، وإنما تحمل معنى محدداً يربط بين النص والعرض، الكتابة والإخراج على الخشبة. وقد نظمت هذه الورشةَ مؤسسةُ "مواطنون فنانون" في العام 2016
لم يعد من الضروري الوقوف عند الصورة التي كتبها سرفانتس. هناك فرق كبير بين دون كيشوت الذي كتبه لكي يسخر منه، أو لأي هدف آخر، وبين دون كيشوت الذي صار ملكنا، وحملناه في مخيلتنا، وأخضعناه لتصوراتنا، وصرنا أحراراً في أن نعيد صنعه وصياغته كما نشاء.
ويمكننا القول إن لكل منا دون كيشوته الخاص به سواء كان قد قرأ الرواية أم لم يقرأها، وسواء اعتمد على الصورة التي في الكتاب أم لم يعتمد. وسواء اعتمد على تفسيره الخاص لما في الكتاب، أم أسقط على الكتاب ما يريده.
إن الوجوه المتعددة التي لشخصية مثل دون كيشوت تمنحنا الحرية والشجاعة للتعبير عن رؤيتنا الخاصة به. وبالتالي فإن كلاً منا قادر على أن يتحدث عن دون كيشوت الذي رآه في الكتاب، أو دون كيشوت الذي يربيه هو في مخيلته الرمزية والإبداعية.
فدون كيشوت موجود في كل مكان، وموجود في كل منا. والرؤية الدونكيشوتية هي تلك التي لا تعطي صاحبها الفرصة للتراجع. لا بد من الوقفة التي تبدو انتحارية أو جنونية. فالتراجع للبحث عن فرصة جديدة تعني التغاضي عن الانهيار الذي حدث للبشر وللقيم. ويعني كأن المرء يتغاضى عن التردي. إنه نوع من معاقبة النفس لإحياء ضمائر الآخرين.
ونستطيع أن نقول بصورة عامة لا بد من وجود وقفة دون كيشوتية دائماً لكيلا يموت الشرف في الحياة ذاتها.
ومن أجل هذا خطر لي ذات يوم أن أدافع عن الجنون.
يجمع هذا الكتاب نصوصاً مختارة لواحدٍ وعشرين شاعراً وشاعرةً من خلفيّات ثقافية واجتماعية مختلفة، بصرف النظر عن أسباب وطرق مغادرتهم لسوريا، وإن كان معظمهم قد غادر بعد اندلاع الثورة أوائل عام 2011. وهم اليوم يعيشون في بلدان متفرقة في العالم العربي وخارجه، ويقطن العديد منهم في ألمانيا خصوصاً.
هذه المختارات هي محاولةٌ للإضاءة على التجربة الشعريّة السوريّة الناشئة في المنفى والتي تحمل في طيّاتها تنوّع أساليب الشعراء، تجاربهم، آراءهم وأعمارهم، وتقدّم صورة عن واقع الشعر السوري في الخارج، من دون تقييمه، وإنّما كشاهد على التغيّرات التي تطرأ على الشّعر وتتوازى مع المتغيّرات على الأرض. وعلى الرغم من أنّ معالم هذه التجربة لم تتبلور بعد، إلا أنها تبرهن محاولات فاعلة لأخذ الشّعر السوري إلى منحنيات أُخرى لا بدّ من أنها ستؤدّي إلى أماكن جديدة في الكتابة السورية.
أريدُ عدواً واضحاً يصلح للشتم والتشفّي
وجنوداً نهلل لعودتهم
مهزومين أو منتصرين
وشهداء لا ضحايا
ونشيداً
ونصباً تذكاريّاً..
أريد مكاناً في صدر الوطن أعلّق عليه
صورة تذكارية لعائلة لم تنجُ من الموت
وأترك للحرب مهمةَ تعليق أوسمة الشّرف على صدر الطّاغية.
أريدُ حرباً تشبه الحرب
وعدواً هو العدو، بلا قناعٍ من طين هذي الأرض
وقصيدةً أكتبها في مديح المقاتل
لا في هجاء البندقية!
أريدُ أن أكتبَ العشب،
العشب الذي سينبت على حديد المدافع!
أراد الناس الهروب من الخواء
فعمَّروا المدن الكبيرة
وصاروا مسنناتٍ ومطارق وحقائب وقبَّعات.
...
أراد أهل المدن أن يعودوا إلى الطبيعة
عندما تكسَّرت عظامهم
فملأوا شرفاتهم بالورود والعرائش
وربَّوا قططاً وكلاباً في البيوت.
...
جعلوا المدن حصينة ومسوَّرة
يحوطها الجنود وتحرسها الطائرات.
...
حين تنشب الحروب
ستظل ورود الشرفات على قيد الحياة
وتشتعل المعارك في جبال القرى.
...
سيموت الفلاحون والحصادون وسائقو الشاحنات
لكن المحاصيل
ستظل تتدفق إلى رفوف المتاجر.
منذ الثورة التي اطاحت بالشاه في العام 1979 تعيش إيران حالة من الغليان الدائم والتقلبات الاجتماعية والسياسية الكبيرة. من هناك تكتب دلفن منوي الصحافية الفرنسية من أصول إيرانية تجربتها في الحياة في إيران لمدة عشر سنوات ومن ضمنها أحد أكثر الفترات غموضاً في تاريخ إيران، الحركة الخضراء.
لا أدري إن كان ما سأرويه قد حدث سابقاً، أم إنه يحدث اليوم، هذه الساعة، الآن، هذه اللحظة. أم إنه سيحدث لاحقاً، غداً أو في يوم قادم، قريب جداً أو بعيد جداً. لكنه، أعلم، يحدث دائماً. أين؟ في العالم، هنا وهناك وفي كل مكان، ولكن ما يهمني أنه يحدث هنا في هذا المكان، بلدي، وفي المدينة التي لم أستطع أن أغادرها، لأسباب لا تحصى. المدينة التي، أعود وأكرر، لا أستطيع الموت بعيداً عنها، ولا الحياة أيضاً. مع من؟ معي هو الجواب الأول، لأنه معروف عني، أنني لا أكتب إلَّا عن نفسي، أو حدث مع شخص آخر أعرفه جيداً، أو ربما مع شخص أعرفه معرفة بسيطة، أو مع شخص صنعته من خليط أشخاص، أو شخص اختلقته كلياً. ولكن، كحل فني لهذه المعضلة، أرى أنه هذه المرة، حدث معك أنت بالتحديد، أنت الذي تقرأ الآن ما أكتبه وتشكّ أنه عنك، ثم شيئاً فشيئاً سوف تعلم أنه عنك. لأنه حرفياً، أو تقريباً حرفياً، حدث معك، وينطبق عليك أنت دون سواك.
البلاد التي لا تطلب أبناءها سوى للموت هي بلاد ميتة، الأبناء الذين لم يعرفوا سواها، ولم يكونوا ليفكروا في مغادرتها، ها هي تصطادهم فرادى، ليكون الخراب مستقبلاً جلياً، وليكون التفكير في النجاة من اختبار الشعوب للمعارك الكبرى في سبيل الحرية والعدالة والتغيير، هو تفكير غاية في البساطة.
* * *
ينطوي زمن ليخرج من رحمه زمن جديد، ويسفك على دربه العبر
القديمة والحكايات التي كانت أمثولة لجيل كامل، وكنا نحن الذين شهدنا لحظة العبور العنيفة، متراساً للزمن القديم والصولجان الحي بيد الزمن الجديد، ولهذا كان علينا أن ننقسم وأن نمتلئ بالشروخ العميقة. قبل أن ننتصر لجزء منّا، ويستقر ما مات فينا في قاع الأزمنة الموجعة التي شهدنا جنونها.
كان ما اخترته قد نهض على مزيج من ذائقة شخصية، وقناعة - سعت أن تكون موضوعية، ما أمكن الأمر - بأنّ هذه النماذج جديرة بتعريف القارئ العريض على شخصية عدوان الشعرية؛ فإنّ ما يستوجب الإيضاح، أيضاً، هو أنّ اختيار قصائد دون سواها خضع لعامل تقني محدد: أي الاستعاضة عن القصائد الطويلة، لصالح تلك المتوسطة أو القصيرة، وذلك لإفساح المجال أمام أكبر عدد ممكن من النصوص المعبّرة عن التجربة، وبما يتناسب مع الحجم المقترح للمختارات.
وعسى أن تفلح هذه المختارات في التذكير بقامة شعرية رفيعة، مثّلها "ابن الحياة الحر"، "المتعالي على التعالي"، المنحني "بانضباط جنديٍّ أمام سنبلة"، والناظر "حزيناً غاضباً، إلى أحذية الفقراء المثقوبة"، المنحاز "إلى طريقها الممتلئ بغبار الشرف"؛ كما عبّر محمود درويش في رثاء عدوان.